لم تغب السياسة عن إدارة شؤون الجماعات منذ بداية التاريخ، ففي الأزمنة الأولى لحياة البشر، تكوّنت قيادات لتوجيه ورعاية الجماعة.
وقد اعتمدت في بدايتها على قرابة الدم، والقبلية، والموقع الجغرافي الواحد، حيث بدأ يتشكّل تاريخ كلّ مجموعة عبر اختلافاتها في العادات والتقاليد والأعراف، إلى أن ظهرت ملامح الدولة بأشكال متنوّعة في المضمون والممارسات والأهداف.
ظهرت الدولة كنتيجة لانتماء الجماعات إلى مصير مشترك، فبرز مفهوم الأمة، الذي تحوّل إلى ترابط أساسي يجمع الجماعات تحت مفهوم الشعب الواحد، والذي أصبح بدوره الدافع الأساسي لعظمة الدولة، سواء كانت دولة بسيطة أو ذات حدود إمبراطورية.
وكان البعد الجغرافي وما يحتويه من قوة بشرية، يفتح الباب أمام صراعات غالبًا ما كانت خطيرة، مما أدى إلى رسم الحدود بين الكيانات وتغييرها بما يتلاءم مع نتائج الحروب والمصالح.
وقد أدّت الاتجاهات المختلفة في إدارة الدولة إلى ظهور آراء متنوعة داخل الجغرافيا الواحدة، فنشأت جماعات سياسية تتسابق إلى السلطة بوسائل متعددة. لكن الكلمة الفصل كانت – وما زالت في كثير من الأماكن – تعتمد على القوة العسكرية أو على الغوغائية الشعبية.
ومن هذا المنطلق، عرفت معظم الأمم الدولة الواحدة، ما عدا تلك التي مزّقتها الحروب فيما بينها.
إن المسار المختصر للحياة السياسية في العالم يدل على أن الحرية والديمقراطية الحقيقية هما الغائبان الأكبران، ولا يزال كثيرون يعانون من غيابهما، باستثناء بعض دول العالم الأول.
لا يعني هذا ان الحرية والديمقراطية الفعلية لم تكن موجودة في الحضارات القديمة، كالإغريقية والفينيقية وغيرها، أما الديمقراطية الحديثة بمناخها الحر، فقد بدأت كحالة فكرية في أوروبا، وتحديدًا في فرنسا، حيث اندلعت ثورتها سنة 1789 ، فكانت نقطة تحوّل أساسية في مفهوم "الحكم للشعب" أو "الشعب هو مصدر السلطات".
وقد استغرق هذا المسار عقودًا من الصراعات والحروب، حتى بدأت الصورة تتّضح من خلال تداول السلطة بالانتخابات، مما أدى إلى ظهور الأحزاب، وتحوّل الصراع على السلطة من الطابع العسكري إلى صراع المفاهيم والبرامج.
بعد هذه المقدمة السريعة والضرورية، لا بدّ للقارئ أن يعرف أن المواضيع المطروحة ستُدرس باختصار تحت ثلاثة عناوين رئيسية:
أولًا: الأحزاب السياسية في أوروبا وتأثيرها على دولها
شهدت الحياة السياسية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية انقسامًا واضحًا بين ضفّتين: أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية.
في المحور الغربي المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، برزت ممارسات ديمقراطية حقيقية، حيث كان يتم تداول السلطة من خلال انتخابات حرة تُجرى في مواعيدها المحددة، وفق دساتير قائمة فعلًا وليست مجرد نصوص شكلية.
أما المحور الشرقي، المدعوم من الاتحاد السوفيتي، فكانت السلطة تتركز بيد "الرفاق" من الحزب الحاكم. كانت الانتخابات تجري بصيغة صورية، والنتائج محسومة مسبقًا من قبل "الرفيق الأكبر" في موسكو، وفق النهج الشيوعي المركزي.
نمت الحياة السياسية بشكل صحي في الغرب، حيث ارتفعت مستويات المعيشة، وسادت الحريات الفردية ضمن إطار المسؤولية. وقد أصبحت هذه التجربة حلمًا تسعى إليه العديد من الدول الأخرى.
في المقابل، تميز المحور الشرقي بالشعارات الرنانة، لكنه شهد واقعًا مريرًا من حيث الحريات، رغم تحقيق بعض الإنجازات العمرانية والمؤسساتية التي استُخدمت غالبًا في الدعاية الإعلامية لإظهار "شرعية" النظام في رعاية شؤون الشعوب.
لكن الحقيقة تجلّت في موجات الهجرة المتتالية من شعوب المحور الشرقي نحو الغرب، بحثًا عن حياة أكثر حرية وكرامة، مما دفع السلطات الشرقية إلى بناء حواجز حديدية، أبرزها جدار برلين.
حدث التغيير الكبير عام 1989 ، مع سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي، فتفجّرت طاقات الحرية في الدول الأوروبية الشرقية، وبدأت تتجه نحو الديمقراطية.
برزت ألمانيا، قلب أوروبا النابض، كمركز لتوسيع الحدود السياسية للحرية والديمقراطية، فعملت الأحزاب السياسية الأوروبية على بناء اتحاد أوروبي، انطلق من السوق الأوروبية المشتركة نحو مستقبل مشترك، من خلال البرلمان الأوروبي.
اليوم، يتمتع الاتحاد الأوروبي بقوة اقتصادية كبرى وتقدّم تكنولوجي بارز، إضافة إلى دور سياسي مهم.
ويتكوّن البرلمان الأوروبي، وهو الجهة التمثيلية الفعلية للاتحاد، من سبعة أحزاب رئيسية، منها:
- حزب الشعب الأوروبي
- التحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين
- المحافظون والإصلاحيون
- حزب الهوية والديمقراطية
- حزب اليسار الأوروبي
يُنتخب هذا البرلمان من قبل شعوب الدول الأعضاء بطرق ديمقراطية واضحة، ويعمل على وضع استراتيجيات شاملة لتطوير الاتحاد، وحلّ المشاكل المزمنة.
وقد أعلن مؤخرًا عن موعد الانتخابات المقبلة ما بين 6 و9 حزيران، لتجديد تركيبته، في مشهد يعكس حرية الشعوب وممارستها الفعلية للديمقراطية، من خلال احترام الآخر والعقلانية السياسية، ما أدى إلى اتحاد قوي وسلام واقعي بين شعوب كانت بالأمس القريب في حالة حرب.
ثانياً: الأحزاب السياسية في العالم العربي
أظهرت المنطقة العربية منذ نحو 15 قرنًا أن الغائب الأبرز عن الحياة السياسية هو الحرية، وما يتفرع عنها من ديمقراطية وتداول سلمي ودستوري للسلطة. لطالما حكم الأقوى، مستمدًا شرعيته من القوة العسكرية (الانقلابات)، أو الغوغائية الشعبية (سلطة رجال الدين).
لم تظهر الأحزاب السياسية في منطقتنا بشكل واضح إلا بعد نهاية الحكم العثماني، وجاء ظهورها متأثرًا بالنموذج الأوروبي الذي فرضه المستعمرون الجدد – البريطانيون والفرنسيون – الذين أعادوا تقسيم المنطقة إلى كيانات شكلت لاحقًا ما نعرفه اليوم بدول العالم العربي.
لكن هل سارت هذه الأحزاب على نهج الحريات الأوروبية؟ أم سلكت مسارات مغايرة؟
برزت بعض الحركات السياسية أثناء فترة الاستعمار، إلا أن الأحزاب العربية ذات الملامح الواضحة والأهداف المحددة لم تبدأ بالظهور إلا بعد مرحلة التحرر من الاستعمار. ولأجل البقاء ضمن إطار هذا الموضوع، سنركز الإضاءة على نموذجين رئيسيين: الأول في مصر والمغرب العربي، والثاني في سوريا والعراق، مع الإشارة إلى الخليج العربي.
شهدت مصر ذروة ما يُعرف بالناصرية في منتصف القرن العشرين، تزامنًا مع صعود نجم جمال عبد الناصر، الذي حمل شعارات تهم المواطن العربي "من المحيط إلى الخليج". على إثر ذلك، توالت الانقلابات العسكرية ضد ما كان يُسمى حينها بالأنظمة "الرجعية" و"الإمبريالية" في اليمن، الجزائر، ليبيا، سوريا، والعراق. في المقابل، حافظت بعض الدول على أنظمتها الملكية مثل المغرب وتونس)حتى فترة لاحقة)، إضافة إلى الأردن ولبنان ودول الخليج.
وبعد أكثر من 75 عامًا، بات من الضروري إجراء مقارنة موضوعية بين هذه الأنظمة التقدمية، وبين الأنظمة التي وُصفت بالرجعية.
ففي المغرب – الذي يعد جزءًا من المحيط العربي الإفريقي – تحتل المملكة المرتبة 69 عالميًا من حيث مستوى المعيشة، الرفاهية، حرية الرأي، وتطبيق القانون بعدالة. كما تأتي في المرتبة الثانية إفريقيًا، والأولى عربيًا. في حين تحتل تونس المرتبة 82 عالميًا.
أما في المشرق العربي، فتأتي الأردن في المرتبة 104 من أصل 190 دولة. ولبنان – الذي كان الأفضل عربيًا قبل الحرب الأهلية عام 1975 – تراجع بشكل كبير. أما سوريا والعراق، واللتان يُحكمهما "حزب البعث العربي الاشتراكي"، فتحوّلت فيهما مظاهر الديمقراطية الشكلية إلى أنظمة استبدادية منذ انقلاب حسني الزعيم في سوريا، مرورًا بحافظ الأسد، وصولًا إلى ما تعانيه البلاد اليوم من فقر واضطرابات وانهيار شبه كامل.
العراق ليس أفضل حالًا. فمنذ انتهاء النظام الملكي، غرق في الحروب والصراعات، وتدهورت أوضاعه الاقتصادية والسياسية بشكل كبير.
في المقابل، يمكن القول إن دولًا مثل الأردن ولبنان ودول الخليج، رغم التحديات، لا تزال في وضع أفضل بكثير على معظم المقاييس الدولية.
السؤال المطروح اليوم: هل يمكن للعالم العربي الخروج من هذا النفق؟ لا يبدو أن "الأنظمة التقدمية" في سوريا، العراق، الجزائر، ليبيا، ومصر قد نجحت في بناء مستقبل أفضل. بل إن الواقع أصبح أكثر سوءًا.
قد يكون الأمل الوحيد هو في العودة إلى الأنظمة التقليدية، التي يمثلها الملوك، الأمراء، والعائلات الحاكمة والقبائل، الذين حافظوا – بدرجة أو بأخرى – على الحد الأدنى من الحياة الكريمة لشعوبهم، وعلى جزء كبير من خيرات بلدانهم. إذ إن ما نهبته الأنظمة "التقدمية" من ثروات يفوق بأضعاف مضاعفة ما أُخذ في ظل الأنظمة التقليدية. وتشير الحسابات المصرفية في الغرب بوضوح إلى حجم الكارثة التي خلفها فساد الأنظمة التقدمية.
ثالثاً: الأحزاب السياسية في لبنان
يتميّز لبنان بموقع جغرافي فريد وجمال طبيعي ساحر، فهو يشكّل واحة خضراء على حافة الامتداد الصحراوي في المنطقة. كما يتميّز بنظام سياسي يُعتبر شبه فريد في العالم العربي، حيث يشهد انتقالاً سلمياً للسلطة في مناخ ديمقراطي حر نسبيًا.
عرف هذا البلد العديد من التكتلات السياسية والحزبية، التي غالبًا ما بُنيت على زعامات محلية وعائلية. وسنركّز في هذا النص على مرحلة إنشاء "لبنان الكبير"، الذي أعلنه الجنرال الفرنسي غورو في الأول من أيلول 1920، وصولًا إلى الحقبة الراهنة، حيث تعاقب على حكم البلاد مفوّضون فرنسيون وشركاؤهم اللبنانيون.
تأسست معالم الدولة الجديدة على قاعدة توزيع الحصص في السلطة، بما يتلاءم مع الأحجام السكانية والطائفية، بالاستناد إلى إحصاء 1932، وهو الإحصاء الرسمي الوحيد المعتمد حتى اليوم. ووفقًا له، بلغ عدد سكان لبنان حينها 785,542 نسمة، وتوزعوا كما يلي:
سارت الأمور على هذا الأساس من فترة الانتداب الفرنسي إلى ما بعد الاستقلال، واستمرت التفاهمات السياسية على منوال مماثل، إلى أن أُبرم "اتفاق الطائف" عام 1989.
في مرحلة ما بعد الاستقلال، برزت الكتلة الوطنية بزعامة إميل إده، والكتلة الدستورية بزعامة الشيخ بشارة الخوري. وقد شهدت أول انتخابات نيابية بعد الاستقلال عام 1947 عملية تزوير واسعة من قبل السلطة، ما كشف عن سلوك سياسي غير مسؤول لم يكن الأخير في تاريخ لبنان.
شهدت تلك الفترة ولادة أحزاب جديدة وزعامات محلية، مثل حزب الكتائب، والأحرار، والنجدة، والقومي الاجتماعي، والحزب الشيوعي. كما برزت شخصيات وعائلات مثل صبري حمادة، إبراهيم حيدر، أحمد الأسعد، كامل الأسعد، والصلح، كرامي، سلام، اده، الخوري، الجميل، شمعون، فرعون، المرّ، وجنبلاط وارسلان وغيرهم. وكان القاسم المشترك بين معظم هذه الزعامات هو التوريث السياسي، الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم.
عملت هذه الزعامات بتفاهمات متنوعة على إدارة البلاد بمشاركة جميع الطوائف، ما أدى إلى بناء دولة غنية ومزدهرة، أطلق عليها لقب "سويسرا الشرق"، وكانت بيروت تُعتبر حينها عاصمة ثقافية شبيهة بباريس.
لكن هذا الازدهار توقّف مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، والتي كانت نتيجة تدخلات خارجية وتجاوب لبناني داخلي مع هذه التدخلات.
امتدت الحرب الأهلية من عام 1975 حتى توقيع اتفاق الطائف عام 1990، الذي كرّس مبدأ المشاركة الفعلية في السلطة، لكنه حافظ على أسس النظام الطائفي. لكن في التطبيق برعاية النفوذ السوري (عهد الأسد) أتت الوقائع مغايرة للنصوص، فأصبح لبنان ساحة نفوذ للمحور السوري-الإيراني من جهة، والمحور المسيحي المتحالف المتضرر من جهة أخرى.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، دخل لبنان في مرحلة جديدة من التدهور السياسي والاقتصادي، مع غياب شريك سني فاعل، وهيمنة أطراف مرتبطة بمحاور خارجية، ما أدى إلى انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة، ودخول لبنان في واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخه الحديث.
لا أرغب في الخوض في تفاصيل تلك المرحلة تفاديًا للانحياز أو الاتهام، لكن ما يمكن تأكيده هو أنّ الأحزاب اللبنانية، بعد الحرب الأهلية، سيطرت بشكل شبه كامل على الحياة السياسية، مما أدى إلى تآكل مؤسسات الدولة، كما حصل في دول أخرى في المنطقة.
الأحزاب اللبنانية تُجسّد التوريث السياسي بامتياز؛ فهي عائلية ومذهبية، ولا تُمارس الديمقراطية داخلها إلا شكليًا. التوريث يتم من الجد إلى الأب فالحفيد، في ظل طغيان الشخصية الفردية على كل تفاصيل العمل الحزبي. ومع ذلك، ترفع هذه الأحزاب شعارات الحرية والديمقراطية، لكنها لا تطبّقها إلا عند اقتسام الحصص في السلطة العامة.
ولا يمكن لهكذا أحزاب ترتبط جذريًا أو جزئياً بقوى خارجية، أن تخدم المصلحة الوطنية. فقد ضاعت مصالح لبنان مع سيطرت هذه الأحزاب على الحياة السياسية، ولن يكون هناك خلاص لهذا الوطن إلا من خلال وعي المواطن، فالانتخابات هي الامتحان الحقيقي لما نريده. فإذا ما كرر اللبنانيون في الانتخابات المقبلة ما فعلوه في الانتخابات الأخيرة، وأعادوا إلى السلطة من ساهموا في خراب البلد، فلا يمكننا أن ننتظر غدًا مشرقًا، بل مستقبلاً غامضًا ومجهولًا.
وضع "العهد الجديد" البلد على سكة الخلاص، وفخامة الرئيس أطلق مرحلة حكم وقائي يعمل فيها برؤية وحكمة. لكن يجب أن يعلم الجميع أن مصدر السلطات في لبنان هو مجلس النواب، والنواب هم المواد الأولية للبناء السياسي. فإن كانت هذه المواد جيدة، كان البناء متينًا، وإن كانت فاسدة، فالنتيجة معروفة.
المسؤولية تقع على عاتق كل مواطن يدخل خلف ستار الاقتراع. وفي هذا العهد، أتيحت الفرصة للجميع لاختيار الأحرار والمستقلين. وعلى كل مواطن أن يبحث عن المرشح الصادق، اللبناني حتى العظم، غير المنتمي للخارج، لأن الخلاص الحقيقي بأيدينا نحن.
بيروت في 2025/05/06