ماذا بعد الطائف؟

ماذا بعد الطائف؟

أتى الطائف دستوراً جديداً للجمهورية الثانية في تاريخ لبنان الحديث وذلك منذ 1992 وحتى الآن، حيث ينتظر مراسم الدفن كأخيه في الجمهورية الأولى التي عملت تحت صيغة التفاهم في سنة 1943 ؛ فتوزّعت المناصب والوظائف على قاعدة 5/6 مكرر. حظيى الموارنة ببعض الإمتيازات من خلال تفاهم (ماروني-سنّي)، سار فيه الجميع، فعُرفت تلك الفترة(1943-1975) بالمارونية السياسية.
كانت الجمهورية الأولى تنمو دائماً وتتعثر قليلاً، لكنّها إستطاعت أن تكون ظاهرة مميزة في العالم العربي، فعُرف لبنان بسويسرا الشرق، حيث حرية التعبير مقدّسة ومستوى الحياة لائق ومرتفع وبيروت مركز مالي عالمي.
بدأت بوادر التعثر تظهر وتقوى بعد إتفاق القاهرة وظهور العمل الفدائي الفلسطيني وإنتشاره حيث تتواجد المخيمات، فأصبح الوضع خطيراً مع إلتفاف أكثر من نصف اللبنانيين حول هذه الظاهرة، وكان في طليعتهم أهل السنّة، فإندلعت الحرب الأهلية المدمّرة منذ 1975 إلى 1992 ، زمن تطبيق دستور التفاهم الوطني المعروف بالطائف.

من الجمهورية الأولى إلى الثانية

كرّس الطائف نصّاً وليس كتفاهم 1943 غير المكتوب، كيفية توزيع المناصب السياسية والصلاحيات من رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة مع وظائف الدرجة الأولى فقط مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. تآكلت صلاحيات الرئاسة الأولى وأعطيت لمجلس الوزراء مجتمعاً، أمّا رئيس مجاس النواب فكان له إمتيازات جعلته راعي حقيقي لعمل السلطات الأخرى. هكذا برزت ضبابية في فصل السلطات وفي تفسير النصوص والتطبيق، فإمكانية التعطيل واردة عند الرؤساء الثلاثة.
بدأت الجمهورية الثانية متعثرة مع إغتيال الرئيس رينه معوّض، ومع وصاية سورية متحكمة بمفاصل اللعبة السياسية برمتها، فكانت تعمل على تطبيق مسار آخر متعلق بالأتفاق الثلاثي. إنتهت المارونية السياسية وتمّ إستبدالها برعيل جديد وقديم ممن قدّموا الطاعة والخضوع، فأكثرية الحصة المسيحية في مجلس النواب كانت تنتخب بقوانين غريبة عجيبة، كقانون (غازي كنعان).
نحن الآن في جهنم حقيقية كما أعلن فخامة الرئيس، وضياع غير مسبوق كما يعمل دولة رئيس الحكومة، وتربّص او ربما غرق في الوحول اللبنانية مع الثنائية الشيعية. نحن في مكان صعب وفريد من نوعه، قد لا تجد مثيلاً له ، لم أقرأ ولم أسمع ولم يخبرني أحد حتى الآن، أنّ الفاشل والقاتل والناهب والمتزلّم ، يتربّع على سلطة في دولة منهارة، يمارس ويعمل ويصيح ويخترع الألآعيب والخزعبلات، فيما الشعب جائع وشبه تأه!؟. هل الشعب اللبناني لا يجرؤ على إكمال ثورته لخلع هذه الطبقة الفاسدة ؟، أم أنّه يعرف واقع التركيبة ويخاف الحرب الأهلية التي عاشها وأختبرها ودفع ثمن نتائجها من اللحم الحيّ ؟.
نحن أمام مشهدية فريدة بين طرفي صراع، سلطة فاسدة وفاجرة وشعب شهم وعاقل، فإن تركت السلطة تتمادى دون محاسبة فستبقى على حالها وأسوأ، وإن بقي الشعب حذراً ومتردداً، ستصحّ فيه (الحمرنة)،والحمير تصبر وتتحمّل المشقّات وفي النهاية تبقى مملوكة لأصحابها لأنّها لا تغضب وتثور، فلكي لا نبقى حميراً، فالخلاص في ثورة الطوائف التي ذكرتها في مقال سابق (الجمهورية المفقودة) . لبنان في الجحيم واللبنانيون على الجلجلة ينتظرون مساعدة ما ، فيما خريطة المنطقة السياسية تتبدّل وتتغير. أميركا في إهتمامات أخرى بعيدة ، والحاضرون ينسّقون مع الدولة التي سعت وعملت لإنهاء هذا البلد، أيّ إسرائيل. لا أمل واقعي إلاّ المبادرة الفرنسية والحوار الداخلي الصعب.
طاولة الحوار

إن كان لا بدّا من حوار ، فالتساؤلات كثيرة وكبيرة :
أ-من هو راعي الحوار؟
ب-ما هي الظروف الملائمة لإنعقاده؟
ج-من هم فرقاء الحوار؟
د-ما هي أسسه الموضوعية للخروج من هذا الجحيم؟
ه- ما المدى الزمني المطلوب للعودة الى بداية المسار الطبيعي؟
و- هل سننتج دستوراً لجمهورية ثالثة، او نصلح الطائف ونكمل؟ الإجابات قد تطول، لكن لا يمكن ذلك في مقال، فالاختصار سيّد البلاغة للإضاءة على بعض جوانب الموضوع.
لا يوجد راعي حقيقي حتى الآن لتبنّي أيّ حوار ، ويكون قادراً على دعوة جميع الفرقاء للمشاركة . فلماذا لا يُقدم الفريق الأقوى المرتبط كليّاً او جزئيّاً بالمحور الإيراني ويفعل ما سبقه عليه النظام السوري في زمن الاتفاق الثلاثي؟ . إن كان فائض القوة لا يصلح للاستعمال لأسباب كثيرة ومعقّدة، فلماذا الانتظار والتلّهي...؟. يبدو أنّ المستقبل غامض وخطير، فيما فرقاء الداخل يلعبون "الغميضة" ونحن ننتظر الكحل من أعمى...!. إن كان المحور الإيراني غير قادر، فهل العرب بشرقهم وغربهم وخليجهم قادرون على ذلك؟. يمكن القول أنّ رغبتهم أكيدة، لكن حالتهم تدعو إلى الأسى، فهم بحاجة على طاولات حوار لمساعدتهم على الرؤية الصحيحة لمصالحهم. لم يبق من الفرقاء الإقليمين المهتمين بنا إلاّ العدو الصهيوني الغاشم بالأمس والرفيق والحليف اليوم وفي المستقبل القريب والبعيد للعرب ولمحيطهم ؛ فهو في حالة فرح عميق، لقد حقق أهدافه في هذا الكيان المتروك لقدره. ألم تكن إسرائيل في قلب أزمة إنترا سنة 1963 ، كي لا تكون بيروت عاصمة مالية كنيويورك ولندن وباريس وطوكيو؟، ألم يسعوا على الدوام لضرب القطاع المصرفي؟، الم يعملوا بقوة لإنهاء دور لبنان الاقتصادي في عملية الترنزيت؟، الم يسخّروا كلّ أمكانياتهم لتدمير لبنان التعددي وصيغة العيش المشترك؟... ألم ... والسلسة تطول.
حققت إسرائيل أهدافها ، لكنّ العتب لا يكون على عدو، بل يصبح غضباً مرفقاً بحزن عميق، عندما تدرك أنّ لهذا الكيان أذرعاً "عتيقة" تمتد من الخليج الفارسي حتى آخر معالم الأناضول وتتغلغل في زوايا وزواريب العالم العربي. صمدنا طويلاً، فلن تكن لنا القدرة وحدنا على مواجهة كلّ هذه المصاعب ، فسقط لبنان الدولة وتبعثرت أحلام شعبه. لكن لم تتوقف أساليب التدمير والإستغلال، فأفضل ما يفعله اللبنانيون في هذه الظروف التعيسة ، هو إحياء هدنة 1948 بكلّ تفاصيلها مع ترسيم حدودي كامل ، وإغلاق هذا الملف الشمّاعة مع كلّ طوقه التي لم تجلب إلاّ الدمار والسموم . إن كانت الظروف الإقليمية غير متوفّرة، فماذا عن الظروف الدولية؟...، ينتظر الجميع في الداخل والخارج الولايات المتحدة الأميركية لمعرفة اتجاهات سياستها الخارجية ، لكنّ الأمور تسير في اتجاه بعيد عن قضايانا، يبدو أنّ الإدارة الجديدة وضعت سلم أولويات يرتكز على النقاط التالية بما يخص منطقتنا :
أ-تكليف إسرائيل رعاية وحماية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، من خلال تكوين تحالف عريض من الأنظمة العربية الغنية القادرة على دفع ثمن الرعاية والحماية. ب- الحفاظ على النظام الإيراني كأداة تخويف، والحدّ من نمو مشروعه في بناء دولة قويّة.
ج- بدأت ملامح الشرق الأوسط الجديد بالظهور، فربما يلزمه أكثر من عقد زمني ليكتمل، وهو قد انطلق مع بداية هذا القرن؛ فمن ينتظر ينتهي ومن يتحصّن يبقى، ونحن أسياد الانتظار .
نحن أمام أفق مسدود، فهل المسعى الفرنسي ولو اقترن بمساعدة روسية قادر على فتح كوة في جدار الأزمة الصلب ؟ ، وهل يوجد بطريرك صفير جديد لإحياء الملف اللبناني في السياسة الدولية وإعادته الى الواجهة ؟ . يبدو أنّ التمنيات لا تروي عطشاً ، فالماء في مكان بعيد والطريق صعب المسالك والرجالات أمثال صفير قماشة نادرة وربما مفقودة عندنا في هذا الزمن الرديء . أمام هذا الواقع المظلم ، لا يمكن الاستسلام وفقدان الأمل من قبل شعب له امتدادات فاعلة على مساحة هذا الكوكب. فمسؤولية الإنقاذ تقع على الجميع وخاصة ثوّار الداخل، ليس امامنا الاّ المبادرة الفرنسية التي بدأت تأخذ بعداً دولياً، فيجب دعمها ومتابعتها لإعادة لبنان الرسالة والعيش المشترك . لذلك علينا ملاقاة هذا المسعى الجدّي في النقاط التالية :
أ-إبقاء الثورة الشعبية ناشطة، وإعادة ترتيب عملها ضمن مجموعات مناطقية بهدف إكمال الحصار حول الطبقة الحاكمة، وتقوية الترابط بين الشعب والقوى الأمنية وخاصة الجيش . الإستفادة من أخطاء المرحلة السابقة ، إن بخصوص الانتخابات النيابية أو مرحلة 2019 والتحركات الشعبية .
ب- التحضير الجدّي للانتخابات النيابية المقبلة إن في موعدها أو قبل، لأنّ الطبقة الحاكمة قد ألغت بأكثريتها موضوع أيّ انتخابات. عدم بروز قيادات مناطقية ووطنية لإدارة المرحلة المقبلة سيضع البلاد مجدداً تحت رحمة الطبقة الحاكمة ، وخاصة في دوائر إنتخابية شبه مغلقة .
ج- دعم مالي واقتصادي محدود وموّجه لتمرير هذه المرحلة الصعبة، أي خارج سيطرة دولة الفساد.
د- الانتقال الى تكوين سلطة كاملة (حكومة ورئاسات) من خلال المجلس الجديد، لدراسة الطائف وإصلاحه، وتطبيقه وخاصة في موضوع اللامركزية الإدارية ، ووضع خطة خمسية متكاملة لإعادة لبنان الى الثقة الداخلية والخارجية .
إنّ هذا السرد لجميل ، لكن هل التنفيذ ممكن ؟

يبدو أنّ العمل جدّي ، والسعي جاري بفعالية دولياً واقليمياً ، ففرنسا تقود المبادرة بدعم أوروبي كامل ورضى روسي وتفّهم عربي ومباركة أميركية ؛ والأمل في إنجاحها مرتبط إلى حدّ بعيد بالثورة والمجتمع المدني في الداخل ؛ فلكلّ واحد مصالحه ، يريد الفرنسي الحفاظ على موطئ قدم تاريخي على شرقي البحر الأبيض المتوسط ، والأوروبي يسعى الى منع هجرة ملايين النازحين إليه ، والعرب يحاربون المد الإيراني بالواسطة ، أمّا الأميركي يريد الثروات المنتظرة في الغاز والنفط دون الآخرين ، فيما الطبقة الحاكمة المنقسمة حول المغانم والحصص ، متعاونة في إثارة النعرات والإنقسامات والإسغلال كي تبقى وتستمر ، لكن الشعب أو المجموعات في الداخل فهي في حالة عدم وضوح ، وإن لم تَحسم أمرها بالقيادة والتنسيق ، سيُحسم أمرها بالفشل والتصفية . نحن أمام عملية قيصرية صعبة ، جوهرها انتقال السلطة وإصلاح الطائف بإنتظارإستكمال مكوّنات الشرق الأوسط الجديد ؛ فعلى أمل أن ننجو من جحيم نحن فيه ، نصلّي ونعمل مع كلّ الأوفياء للخروج إلى برّ الأمان ؛( اللّهم نجيّنا من شر هؤلاء

Image placeholder

دعيبس دياب حبشي



تحية من العقل و القلب الى كل من يهتم بالكلمة و الثقافة عملت منذ سنوات طويلة في عالم الكلمة مطالعة و كتابة حت تراكم في خزانتي محصل من ثمار المعرفة في مؤلفات تدور في عالم الرواية و في غالم البحث الفلسفي و الاجتماعي و القليل في مقالات و نثريات متنوعة مع بعض اللمحات الشعرية العابرة.