لماذا الولايات المتحدة الأمريكية تقود العالم؟

لماذا الولايات المتحدة الأمريكية تقود العالم؟

تتطلب القيادة الكثير من المقوّمات كي تتحقق، إن على الصعيد الفردي أو الإجتماعي أو الدولي، فكيف بالحري أن تصبح جهة محددة مؤهّّلة لقيادة العالم. لكي تقود، يجب أن تكون قويّاً، وجوهر القوة يكمن في رأي الكثيرين في مجال التسلّح والقوات العسكرية. هل أميركا تملك هذا التفوّق؟ وما أهمية " كيفية إستعمال هذه القوة في النجاح أو الفشل"؟ أظهرت الدراسات الإستراتيجية والواقع الميداني، أنّ قوة أميركا العسكرية قد توازي قوة مجموعة الدول الخمس الأول في العالم وربما أكثر، فأقصى ما يستطيع فعله الآخرون هو الصمود، وذلك خارج إستعمال أسلحة الدمار الشامل. أمّا في كيفية إستعمال هذه القوة، فقد حصدت أميركا الكثير من الفوائد وربما أكثر من المصاعب، ففي الحروب لا يوجد الاّ الخسائر، فالرابح هو الأقل خسارة. -الحروب الداخلية: إنّ بعض هذه الحروب تركت آثاراً سلبية في أذهان الشعب الأميركي، وبدت كنقاط سوداء في تاريخ هذه الأمة، وفي السياق نفسه أسست لهيمنة الفئات الجديدة الوافدة على حساب السكان الأصليين. وصلت بعض المعارك إلى حدّ الإبادة بحق هذه القبائل، مع مقاومة شرسة أدّت أحياناً إلى خسائر كبيرة بحق القوات الجديدة كمعركة "نهر باودر الهندية سنة١٨٧٦،والغيمة الحمراء ١٨٦٦-١٨٦٨.
أسست هذه الحروب المتنقلة إلى سيطرة الوافدين على معظم مقدرات البلاد وبداية تشكيل دولة جديدة في "عالم جديد "وخاصة بعد حرب التحرير من الهيمنة البريطانية التي كلّفت الكثير من الخسائر، وخاصة في العاصمة واشنطن سنة١٨١٥. أمّا الحرب الإهلية التي إندلعت من ١٢ نيسان١٨٦١ حتى ٩ أيّار ١٨٦٥، لأسباب عديدة، لكنّ جوهرها يرتكز على عملية تحرير العبيد بين ولايات الشمال المؤيدة وولايات الجنوب الرافضة، يوم كان عددها لا يتعدى "١٣" في الغرب الأميركي من الأطلسي حتى المسيسبي. أدّت هذه الحرب المؤلمة والتي لا تزال مخلفاتها السلبية تطفو على السطح عند كل أزمة داخلية، الى تأسيس دولة على مبادئ الحرية والمساواة والإنماء المتوازن، وتكوّن السلطة بشكلها الحالي.
ولدت الولايات المتحدة الأمريكية في الغرب عند شواطئ الأطلسي، كانت الولادة حبلى بالآلام، هذا مخاص التاريخ، لكنّ وجد المولود الجديد رعاية وعناية حتى كبُر الى ما هو عليه اليوم "٥٠ولاية"من الأطلسي الى الهادئ، وتعاظم شأنه ليصبح سيّداّ يرعى شؤونه وشؤون العالم ، وما متابعة الإنتخابات الأمريكية في معظم أرجاء العالم إلاّ خير دليل على ذلك.
-الحروب الخارجية: بدأت حروب أميركا الرئيسية وخاصة الخارجية مع بداية القرن العشرين، فمشراكتها في في الحرب العالمية الأولى أسست لقوة هذه الدولة مع إنتصار الحلفاء، ثمّ تعاظمت في الحرب العالمية الثانية وشكّلت نقطة تحوّل في صعود هذه الأمة، فخرجت الرابح الأكبر عسكرياً وإقتصادياً وسياسياً. لقد جرت الحرب في أوروبا وعند أطراف العالم القديم، بعيداً عن أراضيها، مما سمح لها بالتعافي السريع ومد يد العون للحلفاء من خلال مشروع"مارشال" الذي أعاد إعمار أوروبا الغربية وأنعش الإقتصاد الوطني وتمديد النفوذ إلى العالم الذي كان يتمحور حول بريطانيا وفرنسا. أمّنت هذه الحرب، بعد سقوط إلمانيا واليابان سطوة سياسية،فتحت الطريق إلى قيادة العالم.
أمّا الحروب الخارجية الأخرى، فكان لها منافع وخسائر حيناً، وكوارث أحياناً أخرى. كانت الحرب الكورية(١٩٥٠-١٩٥٣) نموذجاً عن نصف إنتصار، وما رافقها من تحديات وصلت إلى حدود إعادة إستعمال الأسلحة النووية ؛ بينما غزو خليج الخنزير وأزمة الصواريخ في كوبا سنة١٩٦٠، تركت آثار سلبية عسكرياً وإنتصاراً سياسياً قويّاً حيث أُجبر الإتحاد السوفياتي على سحب صواريخه تحت وطأة التهديد الجدّي الذي قاده الرئيس(جون ف كينيدي ). إنّ هاتين المعركتين هما نتائج الحرب الباردة بين أميركا الإتحاد السوفياتي، ظلّ هذا الصراع يتصاعد حتى بلغ الذروة في فيتنام، فكانت الغلبة لأهل الأرض ومن يدعمهم،فأنتصر التحالف الشيوعي وإنهزم التحالف الرأسمالي، وتكرّس ذلك بعد إستقالة الرئيس نيكسون في ٩ آب ١٩٧٥بسبب فضيحة "وترغيت" ودخول الفيتناميين الشماليين العاصمة سايغون في٣٠ نيسان من العام نفسه.
أعادت أميركا خلط الأوراق وترتيب الأولويات بعد هذه الهزيمة، فأعتمدت الدبلوماسية الذكية،والضغط الإقتصادي المدروس والإعلان الهادف،مع تقويةالتحالف الذي تقوده وترعاه في كل مراحل الحرب الباردة حتى سقوط الإتحاد وإعلان إستقلال الجمهوريات السوفيتية في٢٦ك١ ١٩٩١.
#حروب أميركا بعد سقوط حائط برلين(حروب الشرق الأوسط ):
إنّ المرحلة التي سبقت زعامة أميركا، شهدت تحليلات وأبحاث وتساؤلات تؤشر لمرحلة جديدة تتمحور حول" ماذا بعد سقوط الإتحاد السوفياتي؟، من هو العدو الجديد الذي ستحارب أميركا؟". وردت بعض التحاليل لتدل على أنّ الصراع المقبل سيتجه شرقاً، نحو العالم الإسلامي وخاصة العالم العربي؛ مع العلم أنّ هذا المحيط المستهدف يدور بمعظمه في فلك الولايات المتحدة الأمريكية، حتى الذين يدّعون معادتها، يتسلّحون من روسيا لحماية أنظمتهم ويتاجرون مع الغرب من أجل مصالحهم.
بدأت تطفو إلى السطح قضية الإرهاب والإسلاموفوبيا مع اعلان النفير لشن معارك متلاحقة تحت مسمى " الحرب على الإرهاب". لكن قبل الدخول في هذا النفق المنافق، كانت قد هيّأت أميركا وحدات عسكرية كاملة التدريب والعتاد في منطقة شبيهة بالخليج والعالم العربي، وذلك من خلال تدريبات مكثّفة في صحراء أريزونا ونيفادا سنة ١٩٧٢؛ عُرفت آنذاك بعاصفة الصحراء، وكان المسؤول عنها "الجنرال كولين باول" الذي قادها باقتدار في حرب الخليج الأولى ضد العراق سنة١٩٩٢. لقد نشرت حينها وسائل إعلام هذه التدريبات، ومنها جريدة النهار اللبنانية في ملحقها السياسي مع تحليل مميز عن وجهة الحرب القادمة وتداعياتها.
كانت حرب الخليج بكل أشكالها منذ١٩٩٢،وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، وما رافقها من معارك ضد الإرهاب، من أفغانستان إلى العراق مجدداً، وسوريا واليمن ، تؤدّي إلى المزيد من الخسائر والكوارث البشرية والمادية، ولا تزال هذه المنطقة برمتها كبرميل بارود قابل للإنفجار في أ يّة لحظة.
كلّفت هذه الحروب أرقاماً خيالية بالخسائر، للدول العربية والمنطقة أولاً ولأميركا ثانيةً. لكن في حسابات الخسارة والربح، من المستفيد الحقيقي ومن الخاسر الأكبر؟
يوجد مستفيدون كثر من هذه الحروب، دولياً وإقليميّاً؛ فالصين وروسيا من جهة وإيران وإسرائيل من جهة أخرى. أعادت روسيا الإتحادية تموضعاً جديداً ومؤثراً، وخاصة في الشرق الأوسط والشرق الأدنى. أمّا الصين التي إبتعدت عن الإنفاق في الحروب، أمّنت فائضاً مالياً هائلاً، سمح لها بتحديث كلّ مقومات الدولة العصرية، فظهرت صين جديدة كليّاً بالصناعة والتجارة والعمران والقدرات العسكرية ومعدلات مرتفعة في الدخل القومي الفردي، حيث وظّفت فائضها الإقتصادي في الإستثمارات الخارجية، من آسيا الى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومعظم الشركات والمؤسسات العالمية الكبيرة . أصبحت الصين منافساَ جديّاً في الصناعة والتجارة خلال أربعة عقود، تزاحم أميركا على المركز الأول، وذلك بهمة ومثابرة الصينين شعباً وحكومة. الفريد والغريب في هذه الظاهرة، إنفتاح إقتصادي رأسمالي في ظل إدارة شيوعية موجهة وصارمة، مما سمح للشركات الغربية وخاصة الأميركية بالإستثمار، فتحوّلت الصين إلى مصنع العالم.
إستفادت الصين وروسيا دولياً، لكن في الإستفادة الإقليمية، تأتي إيران كظاهرة ، حيث أنّ حروب أميركا الشرق أوسطية قضت كليّاً أو جزئيّاً على معظم العوائق التي حدّت من تمدد الخمينية، فالقضاء على طالبان في أفغانستان، وعلى الجيش العراقي وصدام حسين، ومحاربة الإرهاب السني من القاعدة إلى داعش ومتفرعاته العالمية؛ أوجب طرح التساؤلات، هل أحسنت إيران الإستفادة من الأخطاء الأميركية؟، أم يوجد تحالفات سريّة قد أدّت إلى إنهيار الشاه والمجيء بالخميني ضمن مخطط دولي برعاية أميركية. صدرت في هذا الخصوص دراسات وأبحاث ومذكرات وكتب تدعم هذه النظرية، وخاصة كتاب التحالف الغادر"treacherous alliance" للدكتور تريتا بارسي سنة٢٠٠٧.
تبقى هذه الأخبار وجهات نظر، فالتاريخ وحده ربما يكشف هذه الأسرار أو ستندثر في خباياه، لكن الواقع يؤشر إلى صراع قوي ومدمّر بين إسرائيل وبعض الدول العربية من جهة، وإيران وأذرعها من جهة أخرى.
إسرائيل المستفيد الأكبر من حروب الشرق الاوسط بكل أشكالها، فهي الآن في عهدها الذهبي. تشتت القضية الفلسطينية كما تشتت الشعب، تحوّل الإسلام إلى حالة شاذة وجعل الإرهاب والإسلاموفوبيا "قميص عثمان" دولي للتدخل والغزو وإشعال الحروب في ايّ مكان وزمان، ودفع بعض العرب لترتيب الأولويات " إيران عدو ، وإسرائيل صديق وحليف" وأخيراً تحييد جيوش عربية كمصر والأردن، أو إضعافها وتدميرها كالعراق وسوريا، وحتى زعزعة وتصفية مقومات وطن ودولة كحالة لبنان المنافس الحقيقي ليهودية إسرائيل وللإقتصاد الحر والنظام الديمقراطي. المستفيدون كثر، أمّا الخاسرون فهم أميركا وحلفاؤها العرب. يقبع العالم العربي اليوم في شبه غيبوبة، مفكك يصارع ذاته ويدمّرها، يحارب طواحين الهواء، يتآكله الصدأ والتعصب والجهل المزمن، نخبه مهاجرة أو هاربة، مهمشة أو مسجونة، مغتالة ومدفونة على كامل المساحة،من المحيط إلى الخليج. مرّ قرن كامل ولم يستثمر في موارده الطبيعية الكبيرة ولا في موارده البشرية المهمة، فصحّ فيه محتوى كتاب" قرن دون جدوى ،- un siècle pour rien - لغسان التويني وجان لا كوتير وجرار د. خوري.
إنّ حروب أميركا بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، لم تجلب لهذه الأمة إلاّ الخسائر الفادحة التي تقدّر بعشرات التريلونات من الدولارات، ولو جُمعت مع خسائر الدمار في العالم العربي ومحيطه، فربما وصلت الأرقام إلى المئة. لكن لا يمكن تجاهل التضحيات الكبيرة في حماية التعددية والأقليات في يوغوسلافيا، حيث كان لأميركا الفضل الأكبر في تحقيق العدالة.
كانت الحرب العالمية الثانية نقطة الإنطلاق نحو الزعامة، أمّا حروب الشرق الأوسط، فهي تؤشر إلى تراجع ما عن القمة. مكّنت القوة العسكرية هذه الأمة من الوصول الى مركز القيادة، عندما أحسنت الخيار وذلك انطلاقا من روحية دستورها المبني على الحرية والمساواة والإنماء المتوازن واحترام حقوق الإنسان، ومحاربةالظلم والإستبداد والفساد. أمّا الإبتعاد عن هذه الروحية، وشن الحروب للهيمنة والتسلّط ولمصلحة الآخرين، لم تترك إلاّ الويلات والخسائر.
يبرز تساؤل مهم، هل كانت أميركا بحاجة إلى الحروب بعد سقوط الإتحاد السوفياتي؟ لو أعادت أميركا دراسة مخاطر الحروب ومنافعها، لأدركت سريعا أنّ القوة العسكرية لم تسقط النظام الشيوعي في الإتحاد السوفياتي، بل فعلت العكس وخاصة في حرب فيتنام. العامل الحقيقي الذي حقق الهدف هو الديبلوماسية الرصينة، والضغط الإقتصادي الجدي والنفس الطويل. إن كان بالإمكان تحقيق الإهداف بالسياسة، فلماذا تقرع طبول الحرب؟، وخاصة لا أحد يريد محاربة أميركا. تركت القوة العسكرية آثاراً إيجابية وأخرى سلبية في مسار هذه الأمة، لكنّ القوة الإقتصادية لم تترك إلاّ النهوض الداخلي والرعاية في المساعدات الدولية.
الإقتصاد والسياسة:
تعتمد معظم الدول لغة الأرقام للتقييم، ويعمل منظرو علم الإقتصاد وأسيادهم على وضع الخطط للوصول إلى مستويات ربحية أعلى دون الإهتمام الجدّي بتوزيع الثروات ورعاية الشؤون الاجتماعية والإنسانية. لكن أهم مرتكزات الإقتصاد تنضوي تحت ثلاثة عناوين:
١- الصناعة: شهدت الصناعة الأمريكية نموّاً كبيراّ بعد الحرب العالمية الثانية وحتى ثمانينات القرن الماضي، وذلك لتوافر المواد الأولية والتكنولوجيا الحديثة والتمويل الجيّد، هذه الميزة غير موجودة في دول أخرى لنقص في إحداها. لكنّ المنافسة الشديدة في الجودة من دول كإلمانيا واليابان وغيرها، وفي إنخفاص التكاليف كالصين ودول العالم النامي ،تركت أثراً سلبياً على الصناعة الأميركية، وخاصة بعد إنتقال مصانعها حيث تتواجد اليد العاملة الرخيصة، كالصين التي غدت مصنع العالم والمنافس على إدارة الشؤون الدولية. إنّ الدخل الصناعي الأميركي يوازي ١٧.٣١تريليون$ من الناتج المحلي الإجمالي.
٢- التجارة: ظلت الولايات المتحدة الأمريكية التاجر الأول عالياً لأكثر من خمسة عقود، إلى أن بدأت الصين بالأقتراب على صعيد التبادل التجاري الذي لا يزال متعلّقاً بالإدارة الأميركية لأسباب كثيرة كالنظام المالي والعملة واللغة. فالصادرات والواردات الأميركية متوازنة إلى حدود مقبولة مع شركاء أساسيين كبريطانيا وكندا والإتحاد الأوروبي واليابان والمكسيك، فهذه الدول تتكامل سياسياً مع أميركا؛ أمّا الصين فتصدّر إلى أميركا ١٨،٤تريليون$ وتستورد منها ٧،٤تريليون$، فالتفاوت كبير لصالح الصين التي تختلف عنها بالنظام السياسي وتنافسها إقتصادياً. هل أميركا بحاجة إلى إعادة ترتيب شؤونها التجارية مع حلفائها ؟، ووضع سلّم الأولويات للحفاظ على موقعها الريادي؟. إنّ الحرب التجارية الدائرة منذ سنوات وتعاظم في كل يوم،ربما تؤمّن وضوحاً في المستقبل القريب أو البعيد.
٣- الزراعة: الزراعة والأمن الغذائي هما القاعدة الصلبة لكل إقتصاد يريد أن يصمد وينمو ويستمر، فأميركا أكبر مصدّر المواد الغذائية، ٢٣٩،٥بليون$ سنة٢٠١٨. هذا الفائض الغذائي يشكّل قوة مستدامة وضرورية للأمن الغذائي الداخلي والعالمي، وقد يوازي القوة العسكرية وبتخطاها لإنعدام الآثار السلبية، فالحاجات العالمية للغذاء ستزداد بحلول ٢٠٥٠ إلى حدود ٦٠./٠، وأميركا تملك مع حلفائها في القارة ككندا والبرازيل والأرجنتين كل الإمكانيات للتوسع زراعياً، لتوافر الأراضي الشاسعة والخصبة، والمياه، والتنوّع المناخي، والتكنولوجيا الزراعية الحديثة، والتمويل الجيّد، سيجعل من هذه الدولة إهراءات العالم الغذائية.
إنّ التركيز على هذه الناحية بالرغم من أنّها لا تشكّل أكثر من ١،٧./٠ من الدخل القومي، لأنّها ستكون القوة الحقيقية في إعادة التوازن السياسي وضبط الإيقاع الإقتصادي العالمي؛ فالأمس القريب كان شاهداً على ذلك، فيوم كان الإتحاد السوفياتي شريكاً أساسياً في قيادة العالم، أيام الحرب الباردة، سعى دائماً لتأمين الغذاء لشعبه، وخاصة في موضوع الحبوب كالقمح مثلاً ؛ فلا عجب إن إنتظر ضابط في الصفوف للحصول على ربطة خبز، مع العلم أن هذه الحالة مع حالات أخرى متنوّعة قد أدّت إلى إنهيار هذا الإتحاد.
كان الصراع العالمي في القرن المنصرم يتمحور حول مصادر الطاقة، وخاصة النفط، لكن القرن الحالي يفتح الأبواب على ميادين جديدة لا تقلّ أهمية عن السابق، والأمن الغذائي والمياه العذبة والتطوّر التكنولوجي وخاصة الثورة الرقمية، " فمن يمتلك العلم الأهم سيكون المؤثر الأول". إن كانت القوة العسكرية والإقتصادية ساهمتا في التفوّق الأميركي، فالأساس في كلّ هذا يكمن في دستور هذه الأمة ومدى الإلتزام بتطبيقه. الدستور الأميركي
-١ ثبات الدستور: هو أقدم دستور مكتوب غير منقطع الإستعمال، غير مرن، أيّ أنّه أرضية صلبة لا يمكن تعديله أو التلاعب به لخدمة السلطة الحاكمة أو شهوات السياسيين الجائرة، أو بقانون عادي. فتعديله يشترط تقديم مشروع قانون محدد من قِبل ثلثي أعضاء الكونغرس، وموافقة ثلاثة أرباع مجالس الولايات، حتى يُصدّق ويصبح نافذاً .
إنّ فلسفة هذا البند تقود إلى مسلمات مهمة للحوكمة الرشيدة المبنية على قاعدة صلبة، لا يمكن تعديلها إلاّ الضروريات العدالة والمساواة والنمو؛ فصعوبة التعديل ترتكز على عاملين أساسيين، الأول يندرج في توافق معظم مكوّنات السلطة في الكونغرس، الشيوخ( ١٠٠ عضواً) والنواب(٤٢٥ عضواً). فلا يمكن الوصول إلى هكذا إجماع إلاّ لخدمة المصلحة العامة، لكن هذا لا يكفي، فعلى سلطات الولايات الموافقة على التعديل بنسبة تفوق مجلسي الكونغرس. إن وجدت مصلحة لدى السلطة، ولن يكن من مصلحة أو منفعة عامة للولايات، يسقط إقتراح التعديل؛ وقد سقطت تعديلات كثيرة وأنجزت أخرى. إنّ الهدف في المشاركة المرتفعة في التعديلات الدستورية، تجعل عمل السلطات السياسية خاضعة لسلطة الشعب في الولايات الخمسين بمعزل عن حجمها الشعبي أو الإقتصادي؛ فروحية الدستور هي التي تسود، لأنّها تستند على مبادئ الفيدرالية والجمهورية، أي تقاسم السلطة بين الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات.
إنّ ثبات الدستور والإلتزام به من أعلى المستويات إلى أصغرها، مكّن هذه الأمة من النهوض من حالة تقارب الصفر سنة١٧٨١، حيث لا قدرات مالية مهمة وقوة عسكرية هزيلة تتكوّن من ٦٢٥ رجلاُ لخدمة الدولة الإتحادية الجديدة التي تدير ثلاث عشرة ولاية من الأطلسي حتى المسيسبي. لكن عزيمة الشعب والإلتزام الصارم بدستور فريد، قد يكون الأهم الذي أنجزته البشرية، مكّن هذه الأمة لتصبح الأهم سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً. -٢فصل السلطات: النقطة الثانية في أهمية الدستور هي فصل السلطات الثلاثة، التنفذية والتشريعية والقضائية بدقة وصرامة ضمن سلسلة من القوانين والصلاحيات، تحفظ حق الجميع وتسهّل حل المشاكل وتجنّب الأزمات السياسية والدستورية. لا يسمح هذا الفصل بسيطرة طرف على آخر، فعمل السلطة التنفيذية خاضع للمراقبة والمحاسبة والتصويب من قِبل السلطة التشريعية والقضائية، كذلك فالسلطة التشريعية بمجلسي الشيوخ والنواب خاضعة أيضاً للمساواة وعدم غلبة للأكثرية الشعبية على حساب الولايات القليلة العدد من خلال عمل مجلس النواب، فمجلس الشيوخ يصبح صمّام الأمان، لأنّ عدده موّزع على الولايات بالتساوي،فلكل واحدة شيخان،حين أ نّ عدد النواب في الولاية يتناسب مع الحجم السكاني. هذا التوزيع الدقيق في الصلاحيات شكّل فلسفة وروحية هذا الدستور.
-٣علمانية الدولة: هذه النقطة الثالثة، جعلت المساواة حالة عملية في دوائر السلطة والمجتمع، فحقوق الجميع محفوظة بمعزل عن الدين أو اللون أو الجنس أو القومية أو الإنتماء السياسي. الأمة الأمريكية هي أهم المجتمعات إنفتاحاً، فما يطفو على السطح من حين لآخر عن تميز عنصري، فقد تخطته الجماعات المكوّنة للمجتمع فعلياً وقانونياً منذ زمن بعيد.
-٤ السلطة القضائية: تشكّل السلطة القضائية في الدستور الأميركي وفي آلواقع نقطة الإرتكاز للحكم الرشيد ولتطبيق القوانين. هذه السلطة مستقلة فعلياً، فلا يمكن لأي سياسي أو مسؤول على كل المستويات تعديل وظيفة أو تعين أو تغيير في أيّ مركز قضائي ألاّ ضمن قوانين واضحة وصارمة في هذا المضمار. فرئيس الجمهورية المنتخب شعبياً وبواسطة مجلس المندوبين دستورياً ، لا يمكنه تعيين قاضيا ًفي المحكمة العليا إلّا في حالتي الوفاة أو الإستقالة. إنّ فعالية هذا القضاء في الإستقلالية والنزاهة والعلم والإكتفاء المادي، أعطت هذه الأمة باعاً طويلاً في الدفاع عن الحقوق وتطبيق القوانين والتقدم .
إنّ الدستور الأميركي هو أساس قوتها، وما تبعه من عناصر القوة في السياسة والإقتصاد والأسلحة،أتت كنتيجة طبيعية لمدى الإلتزام بتنفيذ مضمونه. سيعترض البعض ويبرر ، على أنّ موارد أميركا الكبيرة والمتنوعة هي وراء هذه القوة، لكن يوجد حاليا وكان يوجد بالأمس القريب والبعيد الكثير من الأمم، لها من الموارد الطبيعية ما يوازي هذه الدولة، لكن لم يكن لها إلاّ أدوار ثانوية، والبعض يعاني التخلّف والفقر. الصراع على القيادة.
الصراع على قيادة العالم حديثا أو قديما، موضوع مطروح على مدار التاريخ، لكنّ ثورة الإتصالات والتكنولوجيا، جعلت العالم قرية كونية أو ربما صالة واسعة، حيث لم يعد من أمر مخفي أو بعيد المنال،مما جعل هذا الصراع محترما ومتسارع الخطى.
تصدّرت الولايات المتحدة الأمريكية قيادة العالم بعد سقوط حائط برلين، لكن هذا الوصول لم يكن صدفة ولا جائزة ترضية، بل ثمرة عمل دؤوب ومكثّف لعقود طويلة، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وإكتملت القيادة مع تراجع المنظومة الشيوعية.
حاولت روسيا الاتحادية وخاصة مع تولّي "بوتين" وفريقه القيادة، إعادة تموضع سياسي للتذكير أنّ لهذه الأمة العريقة دورا مهما ومميزا، لكن العودة إلى زمن الإتحاد السوفياتي بقي بعيد المنال حتى الآن. أمّا القوة الجديدة التي تسعى للمشاركة في القيادة بداية،ثمّ التفرّد بها لاحقا،فهي الصين. فهذا الأمر أصبح واقعا، منذ أربعة عقود فقط، بينما لم يكن واردا ولو بالحلم.
الصين التي عانت أزمات إقتصادية صعبة أيام الزعيم "ماوس تونغ"، وصلت أحيانا حتى حدود العوز، وخاصة في ستينيات القرن الماضي، لكن شهدت هذه المرحلة إحياء روح الثورة والإلتزام العقائدي وتأسيس نظام قوي.
إنّ أكثر من أربعة عقود من نمو مطّرد في الأقتصاد الصيني الذي إعتماد على التطور التكنولوجي مع عمالةمدرّبة وناشطة تعطي إنتاجها كبيرا ورخيصا، جعل الوفرة المالية ضخمة ، مما سمح بتطوير وتحديث كل مرافق الدولة حتى العسكرية التي يقدّر أن توازي قوة أميركا سنة ٢٠٣٥. مع العلم أن هذا البلد لم يشن أو يشارك في أية حروب.
أمّا الولايات المتحدة الأمريكية، فقد فعلت العكس، نقلت مصانعها إلى الخارج سعيا وراء يد عاملة رخيصة، مما إنعكس تراجعا في معدل النمو وخلل في الميزان التجاري؛ زد على ذلك أن معظم الحروب التي خاضتها أميركا في هذه الفترة كبدّت أهلها خسائر فادحة، مما رفع الديون على الدولة الفيدرالية إلى حدّ كبير بالنسبة للدخل القومي.
هذه الحقيقة المرّة، جعلت الصين منافسا حقيقيا، فالصراع قوي والحسم فيه صعب، فمسار الأمور سيتضح مستقبلا. ذهب البعض بعيدا، وأخذ يحلل ويستنتج ويحدد التواريخ، منهم من حسم أمر إنهيار الولايات المتحدة الأمريكية وتصدّعها، كما حصل مع الإتحاد السوفيتي في العام المقبل ٢٠٢١، وآخرون حددوا م

Image placeholder

دعيبس دياب حبشي



تحية من العقل و القلب الى كل من يهتم بالكلمة و الثقافة عملت منذ سنوات طويلة في عالم الكلمة مطالعة و كتابة حت تراكم في خزانتي محصل من ثمار المعرفة في مؤلفات تدور في عالم الرواية و في غالم البحث الفلسفي و الاجتماعي و القليل في مقالات و نثريات متنوعة مع بعض اللمحات الشعرية العابرة.