نتقل الشرق الأوسط الجديد بكامله بعد الحرب العالمية الأولى ، من العهد العثماني المزمن والصعب الى وصاية حديثة وناعمة المظهر، تحقق أهدافها بمرونة وعقلانية تحليلية ، لكنّها استعمارية بحيث وُزّعت المغانم بين بريطانيا وفرنسا . قّسّم هذا الشرق الى كيانات بما يناسب السلطة الجديدة وأهواء بعض القبائل والعشائر والمجموعات الأخرى ، فتحققت نتائج تفاهم "سايكس – بيكو " الذي وُقّع في أيار 1916 بمباركة روسيا القيصرية وإيطاليا .
رز بعد هذا الاتفاق وعد " بلفور " في 2 تشرين الثاني 1917 ، الذي يحضّر لولادة وطن لليهود على أرض فلسطين . دارت الأحداث ومشى التاريخ على قواعد جديدة في بلاد قديمة ، فظهر الكيان في 14 أيار 1948 مع إعلان دولة إسرائيل على لسان ديفيد بن غورين . أعتبره أهل البلاد بالدخيل ، واعتبره أصحابه وداعموه أنّه إحياء لوطن قديم اسمه إسرائيل ، فتحقق الوعد حيث بدأ تكوين الشرق الأوسط الجديد ، وليس كما يدّعي مروّجِ السياسة الأميركية ، وخاصة وزيرة خارجيتها السابقة السيّدة " كونداليزا رايس " ، بأنّ هذا التحوّل قد بدأ معهم .
إسرائيل هي نتيجة السياسة الدولية المنتصرة وتحالف الأنجلوسكسونية مع الصهيونية العالمية ، إنّها ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية ، تفتح أبواباً كثيرة على احتمالات تكاد لا تنتهي ، وتغيّرات جذرية جيوسياسية وديموغرافية ، وخاصة في منطقتنا . هل حصل هذا من قبل، بأن عاد شعب الى أرض يعتبرها هدية إلهية بعد حوالي ألفي عام ؟ ، وما لبث أن حوّلها في أقل من قرن الى قوة تتزّعم المحيط بكامله ؛ هكذا انتهت المرحلة الأولى من الشرق الأوسط الجديد ، والمراحل المتبقية تأتينا عبر الأجيال القادمة . يجب التوقف عند هذه المرحلة والتطرّق الى العالم العربي ، لفهم خط هذا المسار من الوعد حتى الآن ، لأنّ العرب لا يشعرون " بالخوازيق " إلاّ بعد بلوغها سقف الحنك ؛ لو كان لحكّامنا بعض الحنكة والدراية ، واستمعوا لمن نبّه قديماً من هذه المخاطر ، كالمفكرين القوميين وخاصة المسيحيّن لما وصلنا الى ما نحن فيه . مرّ قرن وأكثر ، والعالم العربي بجماعاته وقبائله وعشائره وأفخاذه ومستعربيه يعمل على وتيرة واحدة ، " اللهمّ نفسي " ، الهمّ الوحيد ينحصر بالحفاظ على السلطة ، والعدو الأول هم الرعايا ، او الشعب المقموع والممنوع من الحرية والوعي والمسألة . يبدو للبعض أنّ هذا واقع جديد ، لكن الحقيقة التاريخية توضح تكراراً مزمناً لأحوالنا ولأنظمتنا ولشكل الدول التي نرغب في بنائها . العرب قبائل متحالفة حيناً ومتناحرة أحياناً ، تبعاً للظروف والأهداف والتوصيات الخارجية ؛ حتى في زمن الخلافة ، من الراشدين الى العثمانيين مروراً بالأمويين والعباسيين ، نعرف مدى حدّة التقاتل على السلطة ، فأصبح الدين يشكّل الأداة الوحيدة في الصراع السياسي ، فتحوّل من رسالة الى وسيلة . طالما الدين وسيلة لبلوغ السلطة ، فلا مجال للسير نحو المستقبل ، والتاريخ شاهد حيّ على ذلك .عندما كانت الكنيسة شريكة في الحكم في القرون الوسطى وحتى منتصف القرن السابع عشر ، على معظم التراب الأوروبي ، غاب المسيح وتعاليمه وحلّ المبدأ التاريخي والحاضر الدائم في كلّ العصور ، الغاية تبرر الوسيلة ، فبرزت المحاكم العرفية وبيع أمكنة في الجنّة وصكوك الغفران ... الخ . الحالة في دنيا العرب مع الكثيرين من المعجن المشابه ، تنادي بالدولة الدينية أو في أحسن الأحوال الممزوجة ببعض الأخبار المدنية للزينة فقط ، فلا أمل لهؤلاء إلاّ ببناء دولة مدنية حقيقية ، وإخراج الدين من هذا الصراع كوسيلة ، وإعادته كرسالة ليصبح خياراً فردياً من أجل تهذيب الذات وتعزيز الإيمان بالله وبالحياة الأبدية .
العرب اليوم أسوأ مما كانوا بالأمس القريب ، وبالأمس القريب أسوأ من ألف عام ، ومن ألف عام أسوأ بكثير من بديات كانت تحمل الكثير من الآمال والإنجازات . لو حللنا وبحثنا بجديّة وموضوعية في مشاكلنا المزمنة ، نكون قد قررنا العودة الى الحياة والمساهمة في الحضارة البشرية ، لأنّنا قد أصبحنا خارج أيّة مشاركة فعلية . تتغّير الأمور بسرعة مذهلة ، فما كان يحصل في قرن أصبح يظهر في يوم واحد . نرى إسرائيل في الطليعة ، علمياً وصناعياً وتكنولوجياً ، فيما ا لعرب يطبّلون ويرقصون لانتصارات وهمية فيمنا بينهم ، فلم يأتوا بشيء مهم في هذا القرن ، إلاّ من خلال حرب تشرين 1973 لغسل عار نكسة حزيران 1967 ، لكنّهم عادوا فسكروا دون خمور ، بينما إسرائيل وداعميها خططوا وعملوا دون كلل وحققوا معظم أهدافهم . تمّت تصفية معظم الشخصيات الأساسية التي خلقت توازناً مع إسرائيل وجعلت الغرب يتنّبه لأهمية قطع النفط عنه ، اغتيل الملك فيصل ف ي عقر حرمه من قِبل واحد من أهل عشيرته ، وتبعه أنور السادات على منصة تحتفل بانتصارات حرب تشرين من خلال مجموعة من جيشه ، وتمّ أخيراً تصفية حكم الشاه والمجيء بالخمينية الى إيران ؛ لم يسلم إلاّ حافظ الأسد بفضل دهائه ، فدفع ابنه الثمن مع كافة الشعب السور ي ، ولو بعد حين . لم تتوقف التداعيات عند هذا الحد ، فتابع التقهقر العربي فصولاً جديدة مخيفة ، وخاصة مع تمدد ال خمينية الى الجماعات العربية الشيعية وانطلاق حروب الخليج بكلّ أنواعها وأشكالها . عُلّق صدّام حسين بحبل المشنقة، فأنها ر السد العربي المنيع ضمن خطة محكمة ، شركاؤها كثر ، بدءً من إسرائيل وصولاً الى تواطئ البعض من العرب في السر وأخري ن في العلن . اكتملت مفاعيل الدمار مع الربيع العربي المزعوم ، فتزعزعت أركان الأنظمة والكيانات ، من الجزائر حتى م صر، ومن الخليج حتى المشرق العربي بكامله . أزمات متلاحقة في الجزائر ، مغرب غارق في صحرائه وقضاياه المعيشية ، ليب يا في صراع مفتوح ومدّمر مع الذات ، مصر تعاني وتخاف الغد ، وسلامة تونس موضع شك ؛ أمّا الخليج فيلهث وراء الاستقرار ويش تري الأمن بأغلى الأسعار ؛ وفي المشرق يعمّ الضياع ، عراق ممزّق ، سوريا وطن مشرّد ، لبنان على عتبة الزوال ، والأردن في مهبّ مشروع الوطن البديل .
بقيت دولة وحيدة تتمتع بكلّ مقومات الحياة في هذه المنطقة ، قوة علمية واقتصادية وعسكرية واجتماعية في إطار ديمقراطي كامل، مقابل عالم عربي مفكك وضائع ، هكذا دخلنا قسراً في واقع جديد ، أسمه بداية العهد الإسرائيلي الذهبي ، كنتيجة طبيعية لمسار عمره أكثر من قرن .
إسرائيل هي المؤثّر الأول في الشرق الأوسط الجديد ، وسيطول هذا التأثير حتى بلوغ القمة ، ومن ثمّ يبدأ الانحدار ، هذا هو مسار التاريخ ، ل كنّ التوقيت والفترات لا يمكن تحديدها بدقة . بدأت تظهر مفاهيم وأنماط سلوكية من الطبقة السياسية ومن عامة الجماعات العربية ، تبشّر بالتقارب والقبول مع إسرائيل وشعبها ، فهم أقارب وأولاد عمومة ، فغدت بنظر ا لكثيرين حليفاً ممكناً لصدّ التمدد الإيراني. فيما الحقيقة والواقع الميداني منذ أربعة عقود واكثر تدلّ بوضوح ، على انّ كلّ حروب أميركا وحلفائها في المنطقة ، دمّرت الحواجز أمام تمدد الخمينية ، وجلّ ما فعلته إيران هو دفع العر ب الى أحضان إسرائيل ، هكذا يدير" الميسترو" الأعظم اللعبة ، فيما العرب في غفوة تدفعهم الى المطالبة بسلام عادل في المنطقة ، بينما إسرائيل تسعى الى سلام آخر مبني على الاستسلام والاستغلال .
راقب حركة التاريخ لتسطيع تقدير الفترات الزمنية لتكوين الأسس في سبيل الصعود نحو القمة ، ومن ثمّ متابعة الانحدار حتى حدود الزوال أحياناً ، لترى تقريباً في ايّة مرحلة نحن وماذا ينتظرنا في المستقبل القريب والبعيد . نحن اليوم في الزمن الإسرائيلي المتفاهم بعمق وحكمة مع القوى الدولية ، من أميركا الى روسيا الإتحادية وصولاٍ الى الصين ، والمتحالف مع العرب الأغنياء لحماي تهم من الجشع الإيراني ، والساعي دائماً لزعزعة جبهات الصمود الحقيقية وليس الشكلية التي تخدم مشاريعه . امتدّت فترة المرحلة الأول حوالي 75 عاماً عمليّاً دون التحضير لوعد" بلفور" وما بعده ، ومرحلة الصعود الى القمة تكون قد تت خطّاها بكثير، ومرحلة الانحدار قد تبلغ زمن المرحلة الأولى كحدّ أقصى . يؤشر هذا الى مرحلة جديدة كليّاً في المنطقة بكاملها ، من العالم العربي وما يحيط به من تركيا الى إيران وربما الى أبعد من ذلك . امّا الذين يسوّقون عمر الدول والأمم وخاصة إسرائيل ، كبعض المفكرين اليهود وبعض مجاهدي الفكر العربي وأقاربهم ، بأنّ هذا الكيان في آخ ر أيامه فحددوا تاريخ الوفاة ووزّعوا النعي ومراسم الدفن . يعود هذا الأمر لأسباب مختلفة ، كالخوف من المستقبل عند اليهود أو التمنيات السريالية عند العرب ، وهذا ما نتمناه لإبعاد الكؤوس المرّة عن عالم نحن في أسس تكوينه تاريخياً ، لكنّ الواقع في مكان آخر